إن في هذه الأمة التي فضلها الله على كثير من الأمم وكانت خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، علماء ومشايخ سخروا أنفسهم وحياتهم كلها للعلم ولحفظ هذا الدين الحنيف وفقه وتعليمه، وعلى رأسهم الإمام البخاري، الذي أهتم بالحديث النبوي الشريف أكثر الإهتمام وأعتنى به أجلّ العناية. وفي هذه المقالة سنتكلم عن هذا العالم الجليل وسيرته العطرة.
نسب الإمام البخاري:
هو أمير المؤمنين في الحديث، الإمام المقدام، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه.كان جده أكبر بردزبه فارسيا على دين قومه ومات على المجوسية، وأسلم ابنه المغيرة على يد اليمان الجعفي والي بخارى. وكان أبوه إسماعيل عالما جليلا، سمع من حماد بن زيد والإمام مالك، وروي عنه العراقيون.
مولده ونشأته:
ولد الإمام البخاري رحمه الله بعد صلاة الجمعة، لثلاثة عشر ليلة من شهر شوال، سنة مائة وأربع وتسعون الهجرية (194هـ) ببلدة بخارى. مات أبوه وهو صغير فكفلته أمه وأحسنت تربيته وقد رعته العناية الإلهية من صغره، فقد روي أن البخاري ذهبت عيناه في صغره، فرأت والدته الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام في المنام، فقال لها: “يا هذه ! قد رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك” فأصبح وقد رد الله عليه بصره، فتبدل حزنها سرورا.
نبوغه المبكر:
نبغ بخاري في صغره وهو في الكتاب، فرزقه الله سبحانه قلبا واعيا، وذاكرة قوية، وذهنا وقادا، وألهم حفظ الحديث فأخذ منه بحظ كبير ولما يبلغ العاشرة من عمره، ثم صار يختلف إلى علماء عصره، وأئمة بلده الذين أخذ عنهم وصار يراجعهم ويناقشهم، وما أن بلغ السادسة عشر حتى حفظ كتب ابن المبارك ووكيع بن الجراح.
رحلته في طلب العلم:
أتم البخاري رحمه الله سن السادسة عشر وهو في بلده، وبعدها بدأت رحلته الطويلة في طلب العلم، التي ابتدأها بحجه إلى بيت الله الحرام بصحبة أمه وأخيه، رجع أخوه إلى البخارى، وأقام هو بمكة مجاورا يطلب العلم- وكانت مكة آنذاك من أهم المراكز العلمية في الحجاز.
وقد وجد ما يشبع نهمه في العلم والمعرفة، وكان يأتي إلى المدينة حينا بعد حين، وفي الحرمين الشريفين ألف بعض مؤلفاته، ووضع أساس الجامع الصحيح. يقول الإمام “فلما طعنت في ثماني عشرة صنفت كتاب” قضايا الصحابة والتابعين”، ثم صنفت “التاريخ الكبير” إذ ذاك في المدينة الطيبة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكنت أكتبه في الليالي المقمرة “.
دخل الإمام البخاري إلى الشام ومصر والجزيرة مرتين وإلى البصرة أربع مرات، وأقام بالحجاز ستة أعوام، وقال عن الكوفة وبغداد:” لا أحصى كم دخلت إلى الكوفة وبغداد مع المحدثين”.
قال ابن كثير: أن الإمام البخاري دخل بغداد ثماني مرات وفي كل مرة يجتمع مع الإمام أحمد بن محمد بن حنبل فيحثه على الإقامة ببغداد.
قال الخطيب: رحل البخاري إلى محدثي الأمصار، وكتب بخراسان، ومدن العراق كلها، والحجاز، والشام، ومصر، وورد بغداد دفعات.
سعة حفظه:
رزق الإمام البخاري حافظة قوية، وذاكرة عجيبة، ولم يكن له نظير في ذلك في عصره، فكان أهل المعرفة يغدون خلفه في طلب الحديث وهو شاب، ويغلبونه على نفسه، ويجلسونه في بعض الطريق فيجتمع عليه ألوف، وأكثرهم ممن يكتب عنه.
قال محمد بن أبي حاتم قدم رجاء الحافظ فقال لأبي عبد الله البخاري: ما أعددت لقدومي حين بلغك؟ وفي أي شيء نظرت؟ قال: ما أحدثت نظرا ولا استعددت لذلك فإن أحببت أن تسأل عن شيء فافعل، فجعل يناظره
امتحانه في بغداد:
اشتهر الإمام البخاري في سعة حفظه، وقوة ذاكرته، ومعرفة الحديث الشريف،إذ قدم الإمام البخاري بغداد تجلى اسمه فوق أسماء محدثي بغداد وعلمائها، فبدأ يحسد العلماء وقصدوا امتحانا للإمام البخاري، فاجتمع أصحاب الحديث وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس امتحانا، فاجتمع الناس من أهل خراسان وغيرهم، ومن البغداديين، فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب أحدهم فقام وسأله عن حديث من تلك العشرة فقال: لا أعرفه، فسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه. فمازال يلقي عليه واحدا بعد واحد، حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه. فكان الفقهاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: الرجل فهم، ومن كان منهم غير ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم.
ثم انتدب رجل آخر من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقي عليه واحدا بعد آخر حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه.
ثم انتدب إليه الثالث والرابع إلى تمام العشرة، حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة، والبخاري لا يزيدهم على قوله، “لا أعرفه”.
فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال: أما حديثك الأول، فقلت كذا، وصوابه كذا، وحديثك الثاني، قلت كذا، وصوابه كذا، حتى أتى على تمام العشرة، فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه. وفعل بالآخرين مثل ذلك، ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها، وأسانيدها إلى متونها، فأقرّ الناس له بالحفظ وأذعنوا له بالفضل.
عاش البخاري رحمه الله في عصر اجتمع فيه أئمة أعلام ومحدثون كبار، ومن فضل الله على هذا الإمام أن جميع أئمة عصره قد عرفوا فضله وعظموه، وعرفوا أنه يفوقهم في حفظه وفهمه، فأثنوا عليه الثناء الطيب البليغ.
قال أحمد بن حنبل: ما أخرجت خراسان مثل محمد ابن إسماعيل. وشهد له إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة فقال: “ما تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم من محمد بن إسماعيل”.
مناقبه وفضائله:
كان الإمام البخاري نحيف الجسم ليس بالطويل ولا بالقصير، كان زاهدا في الدنيا ورث من أبيه مالا كثيرا فكان يتصدق به وكان قليل الأكل جدا. يقال كان يقنع كل يوم بلوزتين أو ثلاث، وربما كان يأتي عليه نهار ولا يأكل فيه.
كان البخاري عزيز النفس عفيفا، زاهدا عف اللسان، نبيل الشعور، شديد الورع، ومما يدل على ذلك قوله: ما اغتبت أحدا قط منذ علمت أن الغيبة حرام، وكان يقول: (إني لأرجو أن ألقي الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا).
قال أبو جعفر محمد بن أحمد البغدادي: دعي محمد بن إسماعيل إلى بستان، فصلى بهم الظهر ثم قام يتطوع، فلما فرغ من صلاته رفع ذيل قميصه، وقال لبعض من معه: انظر هل تري تحت قميصي شيئا؟ فإذا زنبور قد لسعه في ستة عشر أو سبعة عشر موضعا، وقد تورم من ذلك جسده، فقال بعض القوم: كيف لم تخرج من الصلاة أول ما لسعك؟ قال: كنت في سورة أحببت أن أتمها.
قال إسحاق بن راهويه “يا معشر أصحاب الحديث انظروا إلى هذا الشاب واكتبوا عنه فأنه لو كان في زمن الحسن البصري لاحتاج إليه لمعرفة الحديث و فقهه”.
مشايخه:
رحل الإمام البخاري إلى المراكز المهمة التي حوت كبار المحدثين في بلاد المسلمين، واستفاد من الشيوخ الذين الموثوق بهم وبأمانتهم. قال الإمام البخاري: كتبت عن ألف وثمانين نفسا، ليس فيهم إلا صاحب حديث”.
سمع الإمام البخاري من شيوخ لا يحصى عددهم، أشهرهم الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه،ويحي بن معين، وأبو نعيم الفضل بن دكين، ومكي بن إبراهيم البلخي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وأبو عاصم الشيباني، ومحمد بن يوسف الفريابي.
تلاميذه:
أخذ عنه الحديث خلق كثير في كل بلدة حدث بها. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: وأما الآخذون عن البخاري فأكثر من أن يحصروا وأشهر من أن يذكروا، وكان يحضر في مجلسه أكثر من عشرين ألفا يأخذون عنه، وممن روي عنه من الأئمة الأعلام: الإمام أبو الحسن، ومسلم بن الحجاج صاحب “الصحيح”. وأبو عيسى الترمذي، وأبو عبد الرحمن النسائي، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وأبو بكر بن خزيمة، ومحمد بن عبد الله مطين.
وروي عن الفربري أنه قال:” سمع الصحيح من الإمام البخاري سبعون ألف رجل فما بقي أحد يرويه غيري”.
مؤلفاته وما قيل في (الجامع الصحيح )
صنف الإمام البخاري مؤلفات عديدة، ومن أشهرها (الجامع الصحيح)، الذي اقتصر فيه على الأحاديث الصحيحة دون غيرها، وقد عده حفاظ الأمة أصح كتاب من كتب السنة. وكان تصنيف كتاب (الصحيح) اقتراحا من شيخه إسحاق بن راهويه. الذي جمع فيه نحو ستمائة ألف حديث. وله كتب أخرى منها: الأدب المفرد
وكتاب السنن في الفقه ومشيخة البخاري ورفع اليدين وبر الوالدين والتاريخ الكبير والأوسط والقراءة خلف الإمام
والصغير وخلق أفعال العباد والضعفاء والمسند الكبير والتفسير الكبير وقضايا الصحابة وكتاب الفوائد وغيرها.
رحلته إلى بخارى:
رجع الإمام البخاري في آخر حياته من نيسابور إلى مدينته بخارى، فتلقاه أهلها بتجمل عظيم ومقدم كريم، واستقبله عامة أهلها، ونثروا عليه الدراهم والدنانير. وبقي مدة يحدثهم في مسجده، فسأله أمير بخارى خالد بن أحمد أن يحضر إلى منـزله فيقرأ (التاريخ) و(الجامع) على أولاده، فامتنع البخاري وقال: أنا لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كان لك إلى شيء منه حاجة ، فاحضر في مسجدي أو في بيتي. ثم راسله الأمير أن يعقد مجلسا لأولاده لا يحضره غيرهم، فامتنع منه، وقال: لا يسعني أن أخص بالسماع قوما دون قوم آخرين. فاستعان بحريث بن أبي الورقاء وغيره من أهل بخارى حتى تكلموا في مذهبه فنفاه عن البلد.
وفاته:
لما خرج الإمام البخاري من بخارى كتب إليه أهل سمرقند، فسار إليهم، فلما كان بقرية خرتنك – وهي على بعد فرسخين من سمرقند- بلغه وقوع فتنة بينهم بسببه، وكان له أقرباء بها، فنـزل عندهم حتى ينجلي الأمر، فأقام أياما فمرض حتى أرسلوا إليه رسولا يلتمسون خروجه إليهم، فأجاب وتهيأ للركوب ولبس خفيه وتعمم، فلما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها إلى الدابة ليركبها، قال: أرسلوني فقد ضعفت، فأرسلوه، فدعا بدعوات ثم اضطجع فقضى. وكانت وفاته ليلة السبت عند صلاة العشاء ليلة الفطر 256 الهجرية، ودفن بعد صلاة الظهر، وكان عمره اثنتين وستين سنة.
رحم الله العالم الجليل، والشيخ الكبير، والمحدث الأعظم في هذه الأمة الإمام محمد بن إسماعيل البخاري الذي عرف بكثرة وملكة الحفظ وكتابة صحيح البخاري يعد من أصح الكتب بعد القرآن الكريم، لأن الأمة تقبلته بالقبول، ولم يشك أحد من أهل السنة في صحته لأنه وضع شروط إتبعها في صحيحه مما يجعله أقل عرضة للخطأ.