السيرة النبوية

غزوة ذات الرقاع

من الأحداث المهمة التي تستوجب منا أن نقف عندها «غزوة الأعاجيب»، وقد سميت بذلك لما وقع فيها من أمور عجيبة، وتسمى غزوة ذات الرقاع (وتسمى غزوة بني ثعلبة؛ لأنهم كانوا يحاربون قبيلة بني ثعلبة، إلى غير ذلك من  الأسماء)؛ لأنه جرحت فيها أقدام الصحابة، فوضعوا الخرق والرقاع على أماكن الجروح، وقيل بسبب ترقيع الرايات بالرقاع، وقيل سميت بذلك لوجود شجرة في مكان المعركة تدعى شجرة ذات الرقاع، وقد حدثت هذه الغزوة في السنة الرابعة للهجرة، بين جيش المسلمين بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم وبين بني ثعلبة الذين ينتمون إلى قبيلة غطفان، وقد كانت الغزوة في ظروف صعبة من أبرزها قلة ما يركب عليه المسلمون، حيث كان كل ستة أو أكثر من المسلمين يتناوبون على بعير أو راحلة واحدة، هذا بالإضافة إلى أن الأرض كانت شديدة الوعورة مما تسبب في جرح أقدامهم كما بَيّنّا، كما أنهم يواجهون أعراباً قساة ضاربين في فيافي نجد، والذين ما زالوا يقومون بأعمال النهب والسلب بين آونة وأخرى (ينظر: الخصائص الكبرى، للسيوطي ص380، والرحيق المختوم ص354).  

ومن خلال القراءة المتأنية في غزوة الأعاجيب استخلصنا منها أهم العبر والعظات، ومنها: المخابرات العسكرية النبوية في يقظة دائمة:

عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم باجتماع قبائل بني ثعلبة، وبني محارب من غطفان، أسرع بالخروج إليهم في أربعمئة أو سبعمئة من الصحابة، وخلّف على المدينة أبا ذر، وقيل عثمان بن عفان، وتوغل في بلادهم حتى وصل إلى موضع يقال له نخل، ولقي جمعاً من غطفان، فتقابلوا ولم يكن بينهم قتال (الرحيق المختوم ص354).

إن تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع القوم بهذه الصورة وتوغله في بلادهم يدل على يقظة دائمة للمخابرات العسكرية الإسلامية، وأنه صلى الله عليه وسلم لا ينتظر حتى يأتي إليه الأعداء بل يتعامل معهم بمبدأ المفاجأة، حتى يُربِك القوم ويجعلهم في حيرة واضطراب، مما يساعد في تحقيق النصر.

  فقه الأحكام ومواءمته لفقه الواقع:

صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف، هذه الصلاة التي تجمع بين جانبين من جوانب العبودية، جانب إقامة الصلاة بهيئة مخصوصة، وبين الحراسة والدفاع عن الدين والوطن، وهذا يبين الفقه العالي الذي يجمع بين فقه الأحكام وفقه الواقع، فعن جابر قال: “خرَج النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى ذاتِ الرِّقاعِ من نخلٍ، فلَقيَ جَمعًا من غَطَفانَ، فلم يكُن قِتالٌ، وأخافَ الناسَ بعضُهم بعضًا، فصلَّى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ركعتي خَوفٍ” (أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع).  

المسلم وتعامله مع الأزمات وقيمة التوكل على الله:

قلة الركوبة وشدة وعورة التضاريس والأزمات المتكررة في غزوة الأعاجيب لم تمنع الصحابة من استكمال المسيرة بقوة وعزيمة، وتحقيق النصر على العدو، فالصحابة تعاملوا مع الأزمات التي واجهتهم بما هو متاح، ولكن الذي ساعدهم على ذلك توكلهم على الله، هذا التوكل بمفهومه الصحيح من اعتماد على الله وأخذ بالأسباب جعلهم يحولون الأزمات إلى منح وعطايا، وقد كان رائدهم في ذلك المعلم الأول الذي يقص علينا جابر رضي الله عنه كيفية تعامله أيضاً مع الأزمة والحادثة المفاجئة، يقول جابر “أنَّه غَزا معَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قِبَلَ نَجدٍ، فلمَّا قَفَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قَفَل مَعَه، فأَدركَتهُمُ القائلَةُ -أي نوم الظهيرة- في وادٍ كثيرِ العِضاهِ، فنَزَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وتَفرَّق النَّاسُ يَستظلُّونَ بالشَّجرِ، فنَزَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم تَحتَ سَمُرةٍ وعلَّق بِها سَيفَه، ونِمْنا نَومةً، فإذا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يَدعونا، وإذا عِندَه أَعرابيٌّ، فقال: «إنَّ هَذا اختَرَط عليَّ سَيفي وأَنا نائمٌ، فاستَيقظتُ وهوَ في يدِه صَلتًا، فَقال: مَن يَمنعُكَ منِّي؟ فقُلتُ: اللهُ ثلاثًا»” (صحيح البخاري [2910])، “فسقطَ السَّيفُ من يدِه، فأخذَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ السَّيفَ فقال: «من يمنعُكَ منِّي؟» فقال: “كُن خيرَ آخِذٍ”. قال: «تشْهدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ وأنِّي رسولُ اللَّهِ» قال: “لا، ولَكن أعاهدُكَ على أن لا أقاتلَكَ ولا أَكونَ معَ قومٍ يقاتلونَكَ”. فخلَّى سبيلَه، فأتى أصحابَه، فقال: جئتُكُم من عندِ خيرِ النَّاسِ” (انظر تخريج مشكاة المصابيح/5235، قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: إسناده صحيح).

فالرسول صلى الله عليه وسلم في حرب يتعامل بهذا الفكر الواعي، والقلب المتيقن، وهذا من باب أحرى يحتم علينا الاقتداء به في الأزمات المختلفة، سواء كانت متعلقة بالسياسة أو الاقتصاد، أو بالجانب الاجتماعي أو العلمي أو الثقافي.

  الجندية وأداء الواجب الديني والوطني:

في مشهد إيماني ووطني تظهر روح الجندية، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: “نزَلَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ منزلًا، فقالَ: «مَن رجُلٌ يَكْلؤُنا؟» -أي يحرسنا- فانتَدبَ رجلٌ منَ المُهاجرينَ ورجُلٌ منَ الأنصارِ (وهما عباد بن بشر وعمّار بن ياسر رضي الله عنهما)، فقالَ: «كونا بفَمِ الشِّعبِ»، فَلمَّا خرجَ الرَّجُلانِ إلى فَمِ الشِّعبِ اضطجعَ المُهاجريُّ، وقامَ الأنصاريُّ يصلِّي، وأتى الرَّجلُ فلمَّا رأى شخصَهُ عرفَ أنَّهُ ربيئةٌ للقومِ، فرماهُ بسَهْمٍ فوضعَهُ فيهِ فنزعَهُ، حتَّى رماهُ بثَلاثةِ أسهمٍ، ثمَّ رَكَعَ وسجدَ، ثمَّ انتبَهَ صاحبُهُ، فلمَّا عرفَ أنَّهُم قد نذَروا بِهِ هربَ، ولمَّا رأى المُهاجِريُّ ما بالأنصاريِّ منَ الدَّمِ، قالَ : سُبحانَ اللَّهِ ألا أنبَهْتَني أوَّلَ ما رمى، قالَ: كنتَ في سورةٍ أقرَؤُها فلَم أحبَّ أن أقطعَها” (صحيح أبي داود [198]).

هذا المشهد قد يعلق عليه بعض الناس أو يستنكرونه، قائلين كيف يحدث ذلك من عباد بن بشر وكيف يصلى في مكان الحراسة؟!

والحقيقة أن عباداً كان في مواجهة العدو ولم يترك حراسته، وأن السهم كان سيصيبه حتى لو كان خارج الصلاة، بالإضافة إلى أنه لما شعر أن السهام تدافعت عليه وأن ذلك سيؤثر على الحراسة أيقظ عماراً ليقوم بالواجب المنوط به.

إن هذا الموقف النبيل من الصحابيين (عباد وعمار) يدل على أن الجندي المسلم قلبه متعلق بالله في كل وقت، كما أن يده مشغولة بالدفاع عن دينه ووطنه.

القيادة أخلاق ومبادئ وعطاء:

القيادة العليا المتمثلة في النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن قيادة الفكر الواحد، ولم تكن تعني الانشغال بنفسه ونسيان رعيته، بل هي قيادة الجسد الواحد والفكر الجماعي، فقد كان صلى الله عليه وسلم مهتماً بأمور أصحابه وأمته حتى في أصعب الظروف، يتفقد أحوالهم ويسأل عنهم، ويواسيهم، يقول جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: “كنتُ معَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ في غزَاةٍ، فأبطأَ بِي جمَلِي أعْيَى، فأَتَى علَيَّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ، فقالَ: «جابرٌ». فقلتُ: نعَمْ، قالَ: «ما شَأْنُكَ؟» قلتُ: أبطَأَ عليَّ جمَلِي أعْيَى فتَخَلَّفْتُ، فنزلَ يحْجُنُهُ بمِحْجَنِهِ، ثمَّ قالَ: «ارْكَبْ». فرَكِبتُ، فلقَدْ رأيتُهُ أكُفُّهُ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ -أي: من سرعته-” (صحيح البخاري [2097]).

السابق
أذكار عامة
التالي
غزوة أحد

اترك تعليقاً